التدخل التركي في سوريا- دوافع أمنية، مصالح إستراتيجية، وتحديات العلاقات مع واشنطن

المؤلف: فادي حيلاني09.11.2025
التدخل التركي في سوريا- دوافع أمنية، مصالح إستراتيجية، وتحديات العلاقات مع واشنطن

منذ انطلاق شرارة الثورة السورية في عام 2011، اتسمت السياسة التركية تجاه هذا التحرك الجماهيري بتنوع جوانبها وتحول مساراتها بشكل ملحوظ. فقد انتقلت من تقديم الدعم للإصلاحات السياسية والسعي الحثيث نحو تغيير النظام في بدايات الثورة، إلى الانخراط في تدخلات عسكرية مباشرة في مراحل لاحقة، وبالأخص ضد القوى الكردية المتمركزة في شمال سوريا.

وقد أسفر هذا التدخل العسكري عن تداعيات جسيمة على العلاقات التركية-الأميركية، حيث وجدت أنقرة نفسها في خضم معادلة معقدة ومتشابكة، تتأرجح بين تحالفها الاستراتيجي الوطيد مع واشنطن في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبين موقفها الرافض والمنتقد لقوات سوريا الديمقراطية، التي حظيت بدعم سخي من الولايات المتحدة في حربها الشرسة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

التدخلات العسكرية التركية في سوريا: دوافعها وتبعاتها

مع تفاقم الصراع المحتدم في سوريا، قامت تركيا بتنفيذ سلسلة متوالية من العمليات العسكرية في شمال البلاد، مدفوعة بمزيج معقد من الهواجس الأمنية الملحة، والطموحات الاستراتيجية بعيدة المدى.

في البداية، تبنت أنقرة موقفًا مساندًا وداعمًا للمعارضة السورية التي كانت تسعى جاهدة للإطاحة بنظام بشار الأسد، وذلك تماشيًا مع رياح التغيير التي حملتها موجة الربيع العربي، والتي نادت بالإصلاح والتغيير الجذري.

إلا أن تعقيد المشهد السوري وبروز فاعلين جدد على الساحة، دفع بتركيا إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، حيث انحسر اهتمامها تدريجيًا من إسقاط النظام إلى مواجهة النفوذ المتزايد للقوى الكردية المسلحة على امتداد حدودها الجنوبية.

وقد ازداد هذا التحول الاستراتيجي حدةً مع صعود وحدات حماية الشعب الكردية، التي أصبحت تمثل العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية، وهو الكيان الذي تنظر إليه أنقرة بعين الريبة والشك، معتبرةً إياه امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، نظرًا لأنشطته العسكرية داخل الأراضي التركية.

وبما أن توسع السيطرة الإقليمية لوحدات حماية الشعب كان يُعدّ تهديدًا وجوديًا للأمن القومي التركي، فقد عمدت أنقرة إلى شن حملات عسكرية متتالية بهدف الحيلولة دون قيام كيان كردي متصل على طول حدودها الجنوبية، وهو ما كانت ترى فيه مقدمة لاقامة حكم ذاتي كردي قد يشجع الطموحات الانفصالية داخل تركيا ذاتها.

المحطات المفصلية في التدخل العسكري التركي

كانت عملية "درع الفرات" في عام 2016 بمثابة باكورة الحملات العسكرية التركية الكبرى، وقد استهدفت في آن واحد تنظيم الدولة الإسلامية والقوات الكردية في الشمال السوري، وأثمرت عن إنشاء منطقة آمنة عازلة تمتد بين مدينتي جرابلس والباب، خاضعة للنفوذ التركي المباشر.

وفي عام 2018، أطلقت أنقرة عملية "غصن الزيتون"، التي تركزت على عفرين، المعقل الكردي الاستراتيجي، وانتهت بسيطرة القوات المدعومة من تركيا على المدينة، مما أدى إلى نزوح واسع النطاق للسكان الأكراد، في تطور أثار انتقادات دولية واسعة وحادة.

ثم جاءت عملية "نبع السلام" في عام 2019، والتي استهدفت شمال شرق سوريا، في محاولة جادة لتوسيع نطاق السيطرة التركية وتقليص النفوذ الكردي في المنطقة.

وخلال هذه العمليات، رأت أنقرة في تدخلاتها ضرورة أمنية لا تحتمل أي تأخير أو تسويف، فيما وُجهت لها انتقادات لاذعة؛ بسبب التداعيات الإنسانية المترتبة عليها، لا سيما فيما يتعلق بعمليات التهجير القسري للسكان الأكراد، فضلًا عن اعتمادها على الجيش الوطني السوري، وهو تحالف من الفصائل السورية المعارضة المدعومة تركيًا، في تنفيذ عملياتها العسكرية.

العلاقات التركية-الأميركية: التوتر المتصاعد بين الحلفاء

لم تكن هذه الحملات العسكرية بمنأى عن التداعيات الخطيرة على العلاقات التركية-الأميركية، إذ تزامن توسع النفوذ التركي في شمال سوريا مع تعمق الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وقوات سوريا الديمقراطية، التي اعتبرتها الولايات المتحدة ركيزة أساسية في استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب.

فقد بادرت واشنطن إلى تزويد القوات الكردية بالأسلحة المتطورة والدعم الجوي المكثف والمعلومات الاستخباراتية الدقيقة، نظرًا لفاعليتها المثبتة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية.

غير أن هذا الدعم السخي أثار حفيظة أنقرة وغضبها، التي رأت في تسليح الأكراد تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، متهمةً الولايات المتحدة بأن الأسلحة التي تقدمها لمحاربة تنظيم الدولة يتم تسريبها إلى المجموعات المسلحة الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني.

وعلى الرغم من الاحتجاجات التركية المتكررة والملحة، تمسكت واشنطن بموقفها، معتبرةً الأكراد شركاء لا غنى عنهم في الحرب ضد الإرهاب، مما أدى إلى مواجهات دبلوماسية متكررة بين الجانبين، وجعل الحليفين في الناتو في وضع غير مسبوق، حيث تدعم كلٌّ منهما أطرافًا متصارعة على الأرض السورية.

وقد أسهم هذا التباين الحاد في وجهات النظر في تعكير صفو العلاقات الثنائية وتدهورها، حيث باتت الخلافات حول سوريا جزءًا لا يتجزأ من التوتر الأوسع بين البلدين، الأمر الذي انعكس سلبًا على التنسيق الاستراتيجي بينهما، سواء في القضايا الإقليمية أو في حلف الناتو.

الإطاحة بالأسد والقيادة الجديدة في سوريا

أرسى سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول من عام 2024 متغيرًا جديدًا في المشهد السياسي السوري المعقد، إذ أثار الفراغ في السلطة مخاوف جمة من عودة تنظيم الدولة الإسلامية إلى لملمة شتاته وتجميع قواه من جديد، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى النظر مليًا في زيادة دعمها لقوات سوريا الديمقراطية، حفاظًا على الاستقرار المنشود، واستمرارًا في الجهود الحثيثة لمكافحة الإرهاب.

في المقابل، شددت تركيا من حملاتها العسكرية ضد القوات الكردية، ساعية إلى تفكيك سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على المناطق التي تحكم قبضتها عليها.

وقد أفضى هذا التصعيد الخطير إلى مواجهات مباشرة بين الفصائل المدعومة من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، مما زاد من تعقيد المشهد المتأزم وألقى بظلاله القاتمة على العلاقات الأميركية-التركية.

وكان لهجوم موالين لنظام الأسد على قوات الأمن التابعة للحكومة الجديدة في مارس/آذار عام 2025 في محاولة يائسة لاستعادة نفوذهم المفقود، والذي سرعان ما تحوّل إلى موجة عارمة من الاقتتال الطائفي، العامل الأهم في دعم وتسريع الاتفاق التاريخي بين قوات سوريا الديمقراطية والإدارة السورية في دمشق؛ بهدف رأب الصدع الداخلي والحفاظ على وحدة البلاد في مواجهة شبح التقسيم والصراع المفتوح.

فقد نص هذا الاتفاق على إدماج قوات سوريا الديمقراطية في مؤسسات الدولة السورية، مما يشكل نقطة تحول مفصلية في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وعلى موازين القوى بين الولايات المتحدة وتركيا في المشهد السوري المتأزم.

وقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفها الحليف الوثيق لقوات سوريا الديمقراطية في حربها الضروس ضد تنظيم الدولة الإسلامية، دورًا رئيسًا ومحوريًا في توجيه تلك القوات نحو إبرام الاتفاق مع دمشق.

ويأتي هذا التحرك الاستراتيجي الهام متوافقًا مع رؤية واشنطن الأوسع الهادفة إلى ترسيخ وحدة سوريا واستقرارها، تمهيدًا لخفض منظم لوجودها العسكري في المنطقة.

ومن خلال دمج قوات سوريا الديمقراطية في البنية الوطنية السورية، تسعى واشنطن جاهدة إلى درء مخاطر الصراع السياسي والعسكري الذي قد يكون سببًا للجماعات المتطرفة لتعيد لملمة شتاتها وتجميع صفوفها من جديد.

أما تركيا، فقد جاء موقفها إزاء هذا التطور مشوبًا بالتفاؤل الحذر والترقب. إذ لطالما نظرت أنقرة إلى قوات سوريا الديمقراطية، ولا سيّما وحدات حماية الشعب التي تشكل ركيزتها الأساسية، على أنّها امتداد لحزب العمال الكردستاني، الذي تدرجه ضمن التنظيمات الإرهابية المحظورة.

وإن كان إدماج هذه القوّات في المنظومة العسكرية والإدارية للدولة السورية قد يخفّف من المخاوف الأمنية لأنقرة عبر إنهاء الوجود العسكري الكردي المستقل على حدودها الجنوبية، فإنها مع ذلك تبقى على أُهْبة الاستعداد واليقظة، مشددة على ضرورة نزع سلاح وحدات حماية الشعب واندماجها الكامل في الجيش السوري، دون أن تظل لها أي قدرات عسكرية مستقلة.

وفي ظل هذه المستجدات المتلاحقة، باتت العلاقات الأميركية-التركية في سوريا ماضية نحو مرحلة جديدة من التعاون المشوب بالحذر، وإعادة ضبط الحسابات الاستراتيجية. إذ يشترك الطرفان في مصلحة كبرى تتمثل في ضمان استقرار سوريا والحيلولة دون عودة الجماعات المتطرفة إلى الواجهة.

وقد يفضي دعم الولايات المتحدة لاتفاق قوات سوريا الديمقراطية مع دمشق إلى تهدئة بعض المخاوف التركية بشأن النزعات الانفصالية الكردية، مما قد يفضي إلى تنسيق مستدام بين واشنطن وأنقرة.

بيد أنّ مدى استدامة هذا التعاون سيظل رهينة بمدى تنفيذ الاتفاق على أرض الواقع، لا سيّما فيما يخص تفكيك القدرات العسكرية لوحدات حماية الشعب وضم مقاتليها إلى جيش الدولة السورية النظامي.

وعلاوة على ذلك، فإن الانفتاح الدبلوماسي الأخير لتركيا تجاه دمشق، والذي تجلّى في زيارات رفيعة المستوى تزامن مع تصاعد العنف الطائفي، يؤكد سعي أنقرة للعب دور بناء وفعال في إعادة إعمار سوريا، وتفعيل مسار العملية السياسية الشاملة.

وقد يمهد هذا التقارب لآفاق أرحب من التعاون الأميركي-التركي في سوريا، بشرط أن يتمكن الطرفان من مواءمة أهدافهما الاستراتيجية، ومعالجة هواجسهما الأمنية المشتركة بروح من الشفافية والتفاهم المتبادل.

الطريق إلى الأمام

قد يُتيح هذا المشهد الجيوسياسي المتغير في سوريا فرصة ثمينة ومهمة للولايات المتحدة وتركيا للتعاون على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، مما يعزز الاستقرار الإقليمي المنشود ويعالج الهواجس الأمنية المشتركة.

فعلى الرغم من تباين رؤى البلدين حيال بعض جوانب الصراع السوري في السابق، فإن التحولات المتسارعة على أرض الواقع تهيئ إطارًا واعدًا للتعاون على أساس المصالح المشتركة.

ومع الاتفاق الأخير الذي يقضي بإدماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن كيان الدولة السورية الموحدة، تبرز إمكانية سانحة لأنقرة وواشنطن للتنسيق الوثيق بشأن إعادة الإعمار الاقتصادي والتدريب العسكري، حيث بوسعهما الإسهام الفعال في استقرار سوريا، وكبح جماح عودة التنظيمات المتطرفة، والتصدي لنفوذ القوى الخارجية الطامعة، مثل إيران وروسيا.

فإعادة إعمار سوريا بعد سنوات الحرب العجاف تستلزم استثمارات اقتصادية ضخمة، والولايات المتحدة وتركيا في موقع يؤهلهما تمامًا لقيادة هذه الجهود المضنية. فقد خلفت الحرب دمارًا واسعًا في البنية التحتية الحيوية للبلاد، من طرق ومستشفيات ومدارس وشبكات الطاقة، مما أفضى إلى أزمة إنسانية حادة تُذكي نيران الاضطراب.

ومن شأن إنعاش الاقتصاد المتدهور أن يخفف من وطأة الفقر المدقع، ويحدّ من الظروف القاسية التي تسهم في تفشي الأيديولوجيات المتشددة. وهنا تستطيع الولايات المتحدة توظيف نفوذها السياسي والدبلوماسي وتحالفاتها الدولية الواسعة لتنسيق الاستثمارات الضخمة في مشاريع إعادة الإعمار، فيما يمكن لتركيا، بفضل قربها الجغرافي وشبكاتها التجارية الممتدة في الشمال السوري، أن تضطلع بدور محوري في إعادة بناء القطاعات الصناعية والزراعية الحيوية.

وقد انخرطت الشركات التركية بالفعل في مشاريع البنية التحتية في المناطق الواقعة تحت نفوذها المباشر، مثل أجزاء من محافظتي حلب وإدلب، وتوسيع نطاق هذه المبادرات ليشمل مناطق سورية أوسع، تحت إشراف دولي صارم، قد يوفر فرص عمل جديدة ويمهد الطريق أمام استقرار اقتصادي طويل الأمد.

علاوة على ذلك، فإن برامج الإغاثة المستهدفة، المدعومة بسخاء من واشنطن وأنقرة، من شأنها معالجة الاحتياجات الإنسانية العاجلة، وفي الوقت ذاته، تمهيد السبيل لتنمية مستدامة ومزدهرة.

أما العقوبات الاقتصادية، فهي تمثل حجر الزاوية في مسار التعافي الاقتصادي السوري، لا سيما في ظل الإدارة الجديدة في دمشق، التي تسعى جاهدة إلى إعادة بناء الدولة على أسس متينة وعصرية عقب الإطاحة بنظام الأسد. فالعقوبات الأميركية المشددة، المفروضة بموجب قانون قيصر، والتي صُممت في الأصل لإضعاف قبضة النظام السابق على السلطة، باتت اليوم تهدد بإعاقة مساعي الاستقرار وإعادة الإعمار.

وبينما التزمت تركيا في معظم الأحيان بهذه العقوبات، فإنها حافظت على انخراط اقتصادي ملحوظ في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، ما يشي بإمكانية تبني نهج أكثر شمولية وفاعلية في المستقبل.

ومن هنا فإن تعاونًا أميركيًا-تركيًا مشتركًا لإعادة النظر في القيود الاقتصادية، بما يتلاءم مع الإصلاحات الجوهرية التي تجريها الحكومة الجديدة، قد يسهم في تحقيق انتقال سياسي أكثر شمولًا وفاعلية.

ويمكن لواشنطن وأنقرة، من خلال تخفيف العقوبات تدريجيًا مقابل خطوات إصلاحية ملموسة في مجالي الإدماج السياسي وإصلاح القطاع الأمني، أن تهيِّئا الظروف المناسبة لانطلاقة اقتصادية متجددة ومستدامة.

كما أن هذا التحول الإيجابي من شأنه أن يشجع الدول الخليجية، التي أبدت اهتمامًا كبيرًا بالاستثمار في سوريا، لكنها لا تزال مترددة بسبب الإطار العقابي الحالي، على الانخراط بفاعلية أكبر ضمن إستراتيجية اقتصادية شاملة تؤدي لدمج سوريا ضمن المنظومة الاقتصادية الإقليمية، وهذا لن يسهم في إعادة إعمار البلاد فحسب، بل سيحدّ أيضًا من قدرة الخصوم، كروسيا وإيران، على الهيمنة على مستقبلها الاقتصادي.

وفي الجانب العسكري، فإن التعاون الأميركي-التركي ضرورة ملحة وحتمية لمنع عودة الجماعات الإرهابية وضمان استقرار المناطق المحررة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية. فاستمرار وجود الخلايا المتطرفة النائمة في مناطق عدة، ولا سيما في الصحاري الممتدة بين دير الزور وحمص، يشكل تهديدًا دائمًا للأمن والاستقرار.

ولذا فإن تبادل المعلومات الاستخباراتية الدقيقة بين الجانبين قد يعزز من كفاءة العمليات المضادة للإرهاب، مما يتيح تنفيذ ضربات دقيقة وموجهة ضد معاقل المتشددين ومعسكرات تدريبهم.

ولطالما اعتمدت الولايات المتحدة على قوات سوريا الديمقراطية كقوة برية فاعلة في حملتها ضد تنظيم الدولة، بينما نفذت تركيا عمليات عسكرية عابرة للحدود للقضاء على العناصر الإرهابية على طول حدودها الجنوبية.

وبإرساء إطار مؤسسي يسمح بتبادل المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات الناشئة وتنسيق العمليات العسكرية المشتركة، يمكن تحسين فاعلية الجهود الأمنية وتقليل احتمالات التصادم غير المقصود بين الطرفين.

كما أن إدماج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الدولة السورية يمثل فرصة ذهبية لإعادة صياغة الترتيبات الأمنية بما يراعي الهواجس التركية المشروعة. فلقد عارضت أنقرة على الدوام الإدارة الذاتية للقوات الكردية المحاذية لحدودها، خشية أن تغذي هذه الصيغة النزعات الانفصالية داخل تركيا.

فإذا تمكّنت الولايات المتحدة من الإسهام الفعال في إعادة هيكلة الفصائل التابعة لقوات سوريا الديمقراطية ضمن إطار عسكري وطني أوسع، فقد تصبح تركيا أكثر استعدادًا للانخراط في تعاون عسكري بناء يركز على مكافحة الإرهاب بدلًا من النزاعات الإقليمية.

بيدَ أن هذا المسار يتطلب مفاوضات دقيقة ومتأنية، لضمان ألا تنظر الفصائل السورية المدعومة من تركيا إلى هذا الإدماج باعتباره تهديدًا لأمنها ومصالحها.

وقد يكون إنشاء برامج تدريبية مشتركة للقوات الأمنية المحلية، بدعم سخي من الولايات المتحدة وتركيا، وسيلة ناجعة لتعزيز احترافية المؤسسات العسكرية السورية، وتقليل الاعتماد المفرط على التشكيلات المسلحة غير النظامية، التي تؤجّج حالة عدم الاستقرار.

ومع بروز ملامح دولة سورية جديدة، عقب زوال نظام الأسد وإدماج قوات سوريا الديمقراطية في مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية، سيغدو التعاون الأميركي-التركي حجر الزاوية في إرساء الاستقرار الإقليمي المنشود.

ومن أبرز التحديات الأمنية التي ستواجهها سوريا في المرحلة المقبلة، تأمين حدودها الطويلة والمترامية الأطراف، التي طالما مثلت معبرًا لتسلل المسلحين وتجارة الأسلحة والسلع غير المشروعة، مما أسهم في تأجيج الاضطرابات وزعزعة الاستقرار.

ومن هنا فإن تبني مقاربة مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا في ضبط الحدود، عبر استغلال التكنولوجيا المتقدمة، مثل أنظمة المراقبة الجوية المتطورة والطائرات المسيرة وآليات تبادل المعلومات الاستخباراتية، قد يعزز الأمن ويمنع تسلل العناصر المتطرفة.

ويمكن تعزيز عمليات مكافحة التهريب التركية عبر تنسيق مباشر مع القدرات التقنية والاستخباراتية الأميركية المتفوقة، مما يوفر منظومة أمنية أكثر شمولًا وفاعلية.

أما في السياق الاستراتيجي الأوسع، فإن التوافق الأميركي-التركي في سوريا بات ضرورة ملحة لا تحتمل التأخير. فروسيا وإيران لا تزالان تسعيان جاهدتين للتمسك بحضورهما العسكري والسياسي في البلاد.

غير أن تعزيز التعاون الوثيق بين واشنطن وأنقرة من شأنه أن يحدّ من توسع الهيمنة الروسية في الغرب السوري ويسهم في تقليص نفوذ المليشيات المدعومة من إيران قرب الحدود مع العراق. وهذا التنسيق لا يفترض بالضرورة تطابق المصالح بشكل كامل، بل يكفي إدراك أن العمل المشترك يمنح الطرفين نفوذًا أكبر بكثير مقارنة بالتحركات المنفردة أو المتعارضة.

وختامًا، فإن تقارب المساعي الأميركية-التركية في سوريا، ولا سيما في مجالي الإعمار والعمليات العسكرية، قد يكون رافدًا رئيسيًا لاستقرار البلاد وتحقيق السلام المنشود.

وبرغم الخلافات السياسية القائمة، فإن واقع الأرض يفرض ضرورة التعاون البناء بما يخدم المصالح الأمنية المشتركة. ومن خلال حوار مستمر وبناء، وتعاون اقتصادي مثمر، وتنسيق عسكري مستدام، يمكن لواشنطن وأنقرة المساهمة الفعالة في رسم مسار جديد لسوريا، يحول دون عودة القوى المتطرفة، ويحدّ من هيمنة الخصوم، ويؤسس لنظام إقليمي أكثر توازنًا واستقرارًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة